وقد ورد الحثّ الشديد في السنّة المطهرة على حفظ
القرآن ومداومة استذكاره.
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) :
(من أعطاه الله حفظ كتابه فظنّ أنّ أحداً أعطي أفضل
ممّا أُعطي فقد غمط أفضل النعمة).
وعنه(صلى الله عليه وآله):
(عدد درج الجنّة عدد آي القرآن. فإذا دخل صاحب
القرآن الجنّة قيل له: إرقا واقرأ، لكلّ آيةٍ درجة فلا تكون
فوق حافظ القرآن درجة).
وورد عن الإمام الصادق(عليه السلام):
(الحافظ للقرآن العامل به مع السّفرة الكرام البررة)
هذا التأكيد على حفظ القرآن وبيان مقام الحافظ
للقرآن وأنّه في أعلى الدرجات؛
لأنّه يكشف عن مدى التفاعل مع القرآن وأنّه حاضر
في نفس المؤمن الحافظ له، وبالتالي تكون قيم القرآن
ومعانيه ومفاهيمه وزاعاً للمؤمن الحافظ في قوله
وفعله ترشده إلى الهدى والصلاح وتنهاه
عن الضلال والانحراف.
وتصوّر لنا بعض الأحاديث الإنسان الذي لم يحفظ
شيئاً من القرآن بالبيت الخرب، وما ذاك إلاّ إشارة
إلى حالة التجافي والابتعاد عن روح القرآن ومعانيه
وبرامجه البنّاءة.
فقد ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله):
(إنّ الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت
الخرب).
وما هذا الحديث وأمثاله إلاّ دعوى للتفاعل مع
القرآن والإستئناس به والتعايش معه والذوبان فيه؛
حتى تكون الروح والعقل والجسد كياناً قرآنياً يمثل
الإنسان الكامل الذي يحمل فكر السماء ويسعى
لتطبيقه على أرض الواقع.
ولهذا يتبيّن لنا سرّ التأكيد على مداومة حفظ القرآن
واستذكاره والاجتهاد في الدعاء على حفظه
وعدم نسيانه.
فقد ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله) دعاء حفظ القرآن
ـ الذي علّمه لأمير المؤمنين(عليه السلام) ـ :
(اللهمّ ارحمني بترك معاصيك أبداً ما أبقيتني
وارحمني من تكلّف ما لا يعنيني، وارزقني
حُسن النظر فيما يرضيك، وألزم قلبي حفظ كتابك
كما علّمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو
الذي يُرضيك عني.
اللهمّ نور بكتابك بصري،
وأشرح به صدري، وأطلق به لساني،
واستعمل به بدني، وقوّني به على ذلك،
وأعني عليه، إنّه لا يعين عليه إلاّ أنت، لا إله إلاّ أنت).
وقد جاءت بعض الروايات لتكشف عن عظمة
ما يفوت الإنسان المؤمن الناسي لما حفظه من القرآن
من الثواب العظيم والمقام الرفيع.
قال الإمام الصادق(عليه السلام):
(من نسي سُورةً من القرآن مُثّلت له في صورة حسنة
ودرجة رفيعة، فإذا رآها قال: من أنتِ؟
ما أحسنك! ليتكِ لي! فتقول: أما تعرفني؟
أنا سورة كذا وكذا، لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا المكان).

الرابعة: ترك تعلّم علوم القرآن وأحكامه
لا يخفى بأنّ القرآن الكريم كتاب هداية إلهي،
وهو تبيان فصّل فيه علمَ كلّ شيء تفصيلاً لا يدانيه
أيَّ تفصيل مهما بلغ في البيان والوضوح.
ففيه علوماً استوعبت جميع المسائل الحياتيّة
التي تقوّم الوجود الأكمل؛ لأنّه منبع العلوم
والفيوضات الإلهيّة.
قال تعالى:
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً
وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله):
(إنّ هذا القرآن مأدُبَةُ اللهِ، فتعلّموا من مأدبته
ما استطعتم).
فالقرآن الكريم هو الغذاء الرباني للإنسان،
الذي لا نفاذ له، وهو النور والهدى والبصيرة
والمنبع لكلّ الأُمور الجارية في العالم باعتباره
الكتاب المبين الجامع لهذه الحقائق والقضايا.
ولهذا يعد تعلّم علوم القرآن وأحكامه من الأُمور
الضرورية في معرفة أصول وفروع الإسلام،
ومعرفة الأحداث والمواقف والشخصيات ومعرفة
من له أهلية القيادة الربانيّة.
وترك تعلّم القرآن والتعرف على حقائقه واكتشاف
أحكامه يؤدي إلى جمود الذهن وجمود الوعي
والتخبط في المسيرة العلمية؛ لعدم التمييز بين الحق
والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين تحديد
المسؤولية الشرعية وعدمها.
وقد توالت توجيهات وإرشادات أهل البيت(عليهم السلام)
في الحث على تعلّم علوم القرآن وأحكامه ودراسة
ما فيه من أطروحات وتعاليم وتطبيقها.
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):
(إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة
يوم الحسرة والظلّ يوم الحرور والهدى يوم الضلالة،
فادرسوا القرآن فإنّه كلام الرحمن وحرزٌ من الشيطان
ورجحانٌ في الميزان).
وعن أمير المؤمنين(عليه السلام):
(وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث وتفقّهوا
فيه فإنّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء
الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص).
وأكّد الإمام الصادق(عليه السلام) على
ضرورة تعلّم القرآن ودراسته والسعي في طلبه،
حيث قال: (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلّم
القرآن، أو يكون في تعليمه).
ويعتبر تعلّم القرآن من أهم المعايير لمعرفة الأفضل
والأحسن من بين المؤمنين، كما أشار إلى ذلك
رسول الله(صلى الله عليه وآله):
(خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه)
وهذا التأكيد على دراسة القرآن وتعليمه؛ باعتباره دستور
الحياة في جميع أبعادها ومجالاتها، أنزل لينظم حياة
الإنسان ويغيّر عقيدته إلى عقيدة إلهية،
وضميره إلى ضمير إسلامي وسلوكه إلى سلوك إسلامي،
ولأنّه يعطينا المعرفة والبصيرة التي من خلالها نصل
إلى مرحلة التشخيص الدقيق والسلوك الصحيح
باعتبار صدوره من خالق الإنسان والكون
ونزوله على قلب أرقى النماذج الإنسانية.
فلا نحتاج بعد ذلك لاستجداء النظريات الوضعية
والقوانين البشرية.
ولهذا تؤكد روايات أهل البيت(عليهم السلام)
على فضل المعلم للقرآن وتوقيره في المجتمع الإسلامي
وحسن رعايته واحترامه؛ باعتبار دوره المهم
في إرساء دعائم القرآن الكريم وبيان مناهجه
وأساليبه لأبناء المجتمع الإسلامي.
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):
(من عَلَّمَ رجُلاً القرآن فهو مولاه، لا يخذله ولا
يستأثر عليه).
وعنه(صلى الله عليه وآله):
(من عَلَّمَ عبداً آية من كتاب الله فهو مولاه،
لا ينبغي له أن يخذله ولا يستأثر عليه، فإن هو فعله
قصم عُررةً من عرى الإسلام).
ومن دواعي الاهتمام بالقرآن وتعليمه هو ما افترضه
الشارع الإسلامي المقدس من الحقوق على الآباء
للأبناء وهو حق تعليم القرآن للأولاد،
وما ذلك إلاّ لبيان أهمية تعلّم القرآن وتعليمه؛
لكي ينشأ الجيل الإسلامي نشأةً قرآنية
وليرتقي بجيل المستقبل إلى الكمال المنشود
والحياة السعيدة في ظل الإسلام وتعاليم
القرآن المجيد.
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):
(حق الولد على والده أن يُحسِّن اسمه، ويزوّجه إذا أدرك، ويعلّمه الكتاب).
وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):
(حق الولد على الوالد أن يُحسِّن اسمه، ويُحسِّن أدبه،
ويُعلِّمه القرآن).
وإذا قام الآباء بأداء هذا الحق، فيكون لهم الدور
في زرع مفاهيم وقيم القرآن في قلوب وعقول
وضمائر أولادهم منذ نعومة أظفارهم،
حتى يتسنى لهم بالمستقبل قيادة المجتمع إلى
جادة الأمان والسلام والمحبة من خلال تحكيم
أحكام القرآن ومفاهيمه وقيمه في ربوع
الأمة الإسلامية.
قال رسول الله(عليه السلام):
(من علّم ولداً له القرآن قلَّده الله قلادة يُعجَبُ
منها الأوّلون والآخرون يوم القيامة).

الخامسة: ترك العمل بالقرآن
القرآن ليس كتاب تلاوة وتدبّر فحسب بل هو كتاب
هداية للإنسان بعد مراعاة مفاهيمه وقيمه وتجسيدها
في ممارسات عملية على أرض الواقع؛
ولذا فإنّ ترك العمل به وبما جاء به من مفاهيم وقيم
وموازين وإرشادات يؤدي إلى الابتعاد عن المنهج
الإلهي ابتعاداً حقيقياً، وله آثاره الوخيمة
على حياة الفرد والمجتمع فيجعل الإنسان قلقاً
مضطرباً تعيساً؛ لأنّه لم يستجب لنور الهداية
والإرشاد.
فقراءة القرآن وتدبّر آياته مقدّمة للعمل بالقرآن
وتطبيق أحكامه وتحكيم قيمه ومناهجه.
فهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله)
عندما يسأل عن معنى قوله تعالى:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}،
قال: (يتبعونه حقّ اتّباعه).
وكذلك الإمام الصادق(عليه السلام)
في تفسيره لقوله تعالى:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}،
قال: (يرتلون آياته، ويتفهَّمون معانيه، ويعملون
بأحكامه، ويرجون وعده، ويخشون عذابه،
ويتمثلون قصصه، ويعتبرون أمثاله،
ويأتون أوامره، ويجتنبون نواهيه.
وكان من وصية أمير المؤمنين(عليه السلام):
(الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم).
فالقرآن الكريم يهتف بالعمل والتطبيق لأوامر الله
والابتعاد عن نواهيه.
وتعتبر هذه المرتبة ـ ترك العمل بالقرآن ـ من أبرز مظاهر
هجر القرآن وتركه والإعراض عنه.
وهذا التاريخ يضمُّ بين أوراقه شواهد كثيرة من قبل
حكّام الجور والطغاة الذين عطّلوا أحكام القرآن وأبطلوا
حدوده وخالفوا أوامره وارتكبوا محارمه
ونواهيه.
فقد ذكر الماوردي وآخرون أنّ معاوية أُتي بلصوص
فقطعهم، حتى بقي واحد من بينهم، فقال:
يميني أمير المؤمنين أُعيذها ***
بعفوك أن تلقى نكالاً يُبينها
يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترُها ***
ولا تعدم الحسناء عيباً يشينها
فلا خير في الدنيا وكانت حبيبةً ***
إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فقال: كيف أصنع بك؟
قد قطعنا أصحابك. فقالت أُمّ السارق:
يا أمير المؤمنين اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها.
فخلّى سبيله، فكان أوّل حدّ ترك في الإسلام.
وعلّق الأميني(قدس سره) على فعل معاوية هذا،
قائلاً: أفهل عرف معاوية من هذا اللّص خصوصيّة
استثنته من حكم الكتاب النهائي العام:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
أم أنّ الرأفة بأمّه تركت حدّاً من حدود الله لم يُقَم؟
وفي الذكر الحكيم: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ
اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}،
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً
خَالِداً فِيهَا} أم أنّه كان لمعاوية مؤمِّن من العقاب
غداً وإن تعمّد اليوم إلغاء حدّ من حدود الله؟
وهل نيّة التوبة عن المعصية تبيح اجتراح تلك السيئة؟
! إنّ هذا لشيء عجاب...!).
وقد تجاوز الطغاة وحكام الجور على القرآن أكثر
من ذلك، فوصلت الحالة أن ينصب القرآن كغرض
ويرمى بالسهام ويمزّق ويُفتخر بذلك.
فهذا الوليد بن يزيد بن عبدالملك تفأل بالمصحف
يوماً فخرج قوله تعالى:
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}،
فألقه ورماه بالسهام وقال:
تهدّدني بجبار عنيد***
فها أنا جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر***
فقل يا ربّ مزّقني الوليد
وهكذا خالفوا القرآن وحاربوه وتركوا العمل
به وأعرضوا عنه حتى يأتي
رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم القيامة
ويقف بين يدي الله عزّ وجلّ قائلاً:
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُوراً} .
فنسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا ممّن يتلون القرآن حقّ
تلاوته ويتفهّموا معانيه ويعملوا بأحكامه ويتمثّلوا
قصصه ويعتبروا بأمثاله. أنّه نعم المولى ونعم النصير
وصلى الله على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين.
وفقنّا الله تعالى لحسن مرضاته ولجميع طاعته
وتقبل الله منّا ومنكم صالح الأعمال
يُتبع في المرة القادمة....أن شاء الله
دمتم بعين الرحمن وحفظه
نقلدكم أمانة الدعاء ..