بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم واهلكم اعدائهم

جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات الشريفة :
وأشهد أنكم قد وفيتم بعهد الله وذمّته ، وبكل ما اشترطه عليكم في كتابه ، ودعوتم إلى سبيله، وأنفدتم طاقتكم في مرضاته ، وحملتم الخلائق على منهاج النبوة ومسالك الرسالة،وسرتم فيه بسيرة الأنبياء ، ومذاهب الأوصياء ، فلم يُطع لكم أمر ، ولم تَصغ إليكم أذنٌ ، فصلوات الله على أرواحكم وأجسادكم.
ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 294.

قال الشيخ المفيد عليه الرحمة :
ثمّ سار ( عليه السلام ) حتى مرّ ببطن العقبة ، فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له :
عمر بن لوذان ، فسأله : أين تريد ؟
فقال له الحسين ( عليه السلام ) :الكوفة ،
فقال الشيخ : أنشدك الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاَّعلى الأسنّة وحدِّ السيوف ، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطَّاؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ،
فأمّا على هذه الحال التيتذكر فإني لا أرى لك أن تفعل ، فقال له :
يا عبدالله ، ليس يخفى عليَّ الرأي ، ولكن الله تعالى لا يُغلب على أمره.
ثمَّ قال ( عليه السلام ) :
والله لايدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلَّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذَّل فِرَق الأمم.
ثمّ سار ( عليه السلام ) من بطن العقبة حتى نزل شراف فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ، ثمَّ سار حتى انتصف النهار، فبينما هو يسير إذ كبَّر رجل من أصحابه ،
فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الله أكبر ، لمِ كبَّرت ؟
فقال : رأيت النخل ،
فقال له جماعة ممن صحبه : والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط ،
فقال الحسين ( عليه السلام ) : فما ترونه؟
قالوا : والله نراه أسنّة الرماح وآذان الخيل ،
فقال :وأنا والله أرى ذلك.
ثم قال ( عليه السلام ) : ما لنا ملجأ نلجأ إليه ونجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد؟
فقلنا له : بلى ، هذا ذو جشم(ذو حسم) إلى جنبك ، فمل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد ، فأخذ إليه ذات اليسار ، وملنا معه ، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل ، فتبيَّنَّاها وعدلنا،فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنّتهم اليعاسيب ، وكأن راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي جشم فسبقناهم إليه ،
وأمر الحسين ( عليه السلام) بأبنيته فضُربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس ، مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين ( عليه السلام ) في حرّ الظهيرة ، والحسين وأصحابه معتّمون متقلدون أسيافهم.
فقال الحسين ( عليه السلام ) لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً ، ففعلوا وأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء ، ثمَّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أوخمساً عُزلت عنه ، وسُقي آخر ، حتى سقوها عن آخرها.
فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ ، فجئت في آخر من جاء من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين ( عليه السلام ) ما بي وبفرسي من العطش قال :
أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ
ثمَّ قال :يا ابن الأخ ، أنخ الجمل ، فأنخته ،
فقال : اشرب ،
فجعلت كلَّما شربت سال الماء من السقاء ،
فقال الحسين ( عليه السلام ) : اخنث السقاء ـ أي اعطفه ـ
فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي.

وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية ، وكان عبيدالله بن زياد بعث الحصين ابن نمير وأمره أن ينزل القادسية، وتقدَّم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين ( عليه السلام ) فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين ( عليه السلام ) حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين ( عليه السلام ) الحجاج بن مسروق أن يؤذّن.
فلمَّا حضرت الإقامة خرج الحسين ( عليهالسلام ) في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال :
أيها الناس، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم أن : اقدم علينا فليس لنا إمام ، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم،فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم.
فسكتوا عنه ولم يتكلَّموا كلمة ،
فقال للمؤذِّن :أقم ، فأقام الصلاة ،
فقال للحر :أتريد أن تصلي بأصحابك؟
فقال الحر : لا ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك ،
فصلّى بهم الحسين ( عليه السلام) ، ثمَّ دخل فاجتمع عليه أصحابه ، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه ، فدخل خيمة قد ضُربت له ، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه ، وعاد الباقون إلى صفّهم الذيكانوا فيه ، ثمَّ أخذ كل رجل منهم بعنان فرسه وجلس في ظلّها.
فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين ( عليه السلام ) أن يتهيأوا للرحيل ففعلوا ، ثمَّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين ( عليه السلام ) وقام فصلَّى بالقوم ، ثمَّ سلَّم وانصرف إليهم بوجهه ،فحمد الله وأثنى عليه وقال :
أمّا بعد أيها الناس ، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم،والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاَّ الكراهية لنا ، والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليَّ به رسلكم انصرفت عنكم.
فقال له الحر : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ؟
فقال الحسين ( عليه السلام ) لبعض أصحابه :
يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ ، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه ،
فقال له الحر:لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أُمرنا أنا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيدالله بن زياد.
فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الموت أدنى إليك من ذلك ،
ثمَّ قال لأصحابه :قوموا فاركبوا ،
فركبوا ، وانتظر حتى ركبت نساؤه ،
فقال لأصحابه : انصرفوا ، فلمَّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ،
فقال الحسين ( عليه السلام ) للحر:ثكلتك أمّك ، ما تريد ؟
فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان ، ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه.
فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فما تريد؟
قال : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيدالله ابن زياد ،
فقال :إذاً والله لا أتّبعك ،
فقال:إذاً والله لا أدعك ،
فترادّا القول ثلاث مرّات ، فلما كثر الكلام بينهما
قال له الحر : إني لم أؤمر بقتالك ، إنما أُمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذاأبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة ، يكون بيني وبينك نصفاًحتى أكتب إلى الأمير عبيدالله بن زياد ، فلعلّ الله أن يرزقني العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك فخذ هاهنا.
فتياسر عن طريق العذيب والقادسية ، وسار الحسين ( عليه السلام ) وسار الحر في أصحابه يسايره ،
وهو يقول له :
يا حسين ، إني أذكّرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنَ ،
فقال له الحسين ( عليه السلام ) :
أفبالموت تخوِّفني؟
وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟
وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخوَّفه ابن عمه وقال :
أين تذهب فإنك مقتول ؟
فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى** إذا مَا نَوَى حقّاً وجاهد مسلما
وآسى الرجالَ الصالحينَ بنفسِهِ ** وفارق مثبوراً وودّع مُجرما
فإنْ عشتُ لم أَنْدَمْ وإن متُّ لم أُلَمْ** كفى بك ذلاًّ أن تعيشَ وتُرْغَما
قال : ثم أقبل الحسين ( عليه السلام ) على أصحابه وقال :هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة؟
فقال الطرماح :
نعم يا ابن رسول الله ، أنا أخبر الطريق ،
فقال الحسين ( عليه السلام ) :سر بين أيدينا ،
فسار الطرماح واتّبعه الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، وجعل الطرماح يرتجز ويقول :
يَا نَاقتي لا تَذْعري من زجري** وامضي بنا قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ
بخيرِ فتيان وخيرِ سُفْرِ** آلِ رَسُولِ اللهِ آلِ الفَخْرِ
السادةِ البِيْضِ الوُجُوهِ الزُّهْرِ** الطَّاعنينَ بالرِّمَاحِ السُّمْرِ
الضاربينَ بالسُّيُوفِ البُتْرِ** حتَّى تُحلِّي بكريمِ الفَخْرِ
عمَّره اللهُ بَقَاءِ الدَّهْرِ
يَا مَالِكَ النفعِ معاً والضرِ** أَيِّد حسيناً سيّدي بالنصرِ
على الطُّغَاةِ من بقايا الكُفْرِ** على اللعينينِ سليلي صَخْرِ
يزيدَ لا زالَ حَلِيفَ الخَمْرِ** وابن زيادِ العهرِ وابن العهرِ
قال الشيخ المفيد عليه الرحمة :
فلمَّا سمع الحر ذلك تنحَّى عنه ، فكان يسير بأصحابه ناحية والحسين ( عليه السلام ) في ناحية ، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات، ثم مضى الحسين ( عليه السلام ) حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، وإذا هو بفسطاط مضروب ،
فقال : لمن هذا ؟
فقيل : لعبيدالله بن الحر الجعفي ،
قال :ادعوه إليَّ ،
فلمَّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي ( عليهما السلام ) يدعوك،
فقال عبيدالله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين وأنا فيها ، والله ما أريد أن أراه و لا يراني.
فأتاه الرسول فأخبره ، فقام إليه الحسين ( عليه السلام ) فجاء حتى دخل عليه وسلَّم وجلس ، ثم دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد عليه عبيدالله بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه،
فقال له الحسين ( عليه السلام ) :فإن لم تكن تنصرنا فاتق الله أن لا تكون ممن يقاتلنا ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لاينصرنا إلاّ هلك ،
فقال له : أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله.
ثم قام الحسين ( عليه السلام ) من عنده حتى دخل رحله ، ولما كان في آخر الليل أمر فتيانهبالاستقاء من الماء ، ثمَّ أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل.
وفي رواية الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي أنه التقى معه في القطقطانية ، قال عليه الرحمة :
إن الحسين ( عليه السلام ) لما نزل القطقطانية حين مسيره إلى الكوفة دعا عبيدالله بن الحر الجعفي إلى نصرته ، فامتنع عبيدالله عن الإجابة ، وقدَّم للحسين ( عليه السلام ) فرسه ،فقال الحسين ( عليه السلام):
لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك ، وما كنت متخذ المضلين عضداً.
ويروى أن عبيدالله بن الحر ندم بعد مقتل الحسين ( عليه السلام ) وأخذته الحسرة والأسف على تركه نصرة الحسين ( عليه السلام ) ،فقال :
فيالكِ حسرةً مادمتُ حيّاً** تَرَدَّدُ بين صدري والتراقي
حسينٌ حين يطلُبُ بَذْلَ نصري** على أهلِ الضلالةِ والنفاقِ
غداةَ يقولُ لي بالقصرِ قولا** أتترُكُنا وتُزْمِعُ بالفراقِ
ولو أنّي أُوَاسيه بنفسي** لنلتُ كرامةً يومَ التَّلاَقِ
مع ابن المصطفى روحي فِداه** تولَّى ثمَّ ودَّع بانطلاقِ
فلو فَلَقَ التلهُّفُ قَلْبَ حيٍّ** لهمَّ اليومَ قلبي بانفلاقِ
فقد فاز الأولى نصروا حسيناً** وخاب الآخرون ذوو النفاقِ

قال عقبة بن سمعان :
فسرنا معه ساعة ، فخفق ( عليه السلام ) وهو على ظهر فرسه خفقة ، ثم انتبه وهو يقول :
إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين ، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً ،
فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين ( عليه السلام )فقال :
ممَ حمدت الله واسترجعت ؟ قال :
يا بني ، إني خفقت خفقة فعنَّ لي فارس على فرس وهو
يقول :
القوم يسيرون ، والمنايا تسير إليهم،فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا ، فقال له :
يا أبتِ ، لا أراك الله سوءاً ، ألسناعلى الحقّ ؟
قال :بلى ، والله الذي مرجع العباد إليه ،
فقال : فإنّنا إذاً مانبالي ، أن نموت محقين ،
فقال له الحسين ( عليه السلام ) :
جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده.
فلمَّا أصبح نزل وصلَّى بهم الغداة ، ثم عجَّل الركوب وأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرِّقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردَّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا ، فلم يزالوا يتسايرون كذلك حتى انتهوا إلى نينوى ـ المكان الذي نزل به الحسين ( عليه السلام ) ـفإذا راكب على نجيب له ، عليه السلاح ، متنكِّب قوساً مقبل من الكوفة ، فوقفوا جميعاً ينتظرونه ، فلمّا انتهى إليهم سلَّم على الحرّ وأصحابه ، ولم يسلِّم على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، ودفع إلى الحر كتاباً من عبيدالله بن زياد لعنه الله ،
فإذا فيه :أما بعد،فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلاّ بالعراء فيغير خضر وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام.
فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر :
هذا كتاب الأمير عبيدالله ، يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم ،
فنظر يزيد بن المهاجر الكندي ـ وكان مع الحسين ( عليه السلام ) ـ إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له :
ثكلتك أمك ، ماذا جئت فيه ؟
قال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي ،
فقال له ابن المهاجر : بل عصيت ربَّك،وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، وبئس الإمام إمامك ،
قال الله عزَّ وجلّ:
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ
)سورة القصص ، الآية : 41
فإمامك منهم،
وأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ،
فقال له الحسين(عليه السلام ) :
دعنا ـ ويحك ـ ننزل هذه القرية أو هذه ـ يعني نينوى والغاضرية ـ أو هذه ـ يعني شفية ـ
قال : لا والله ما أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث إليَّ عيناً عليَّ ،
فقال له زهير بن القين : إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد مما ترون ، يا ابن رسول الله ، إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ،
فقال الحسين(عليه السلام ) :ما كنت لأبدأهم بالقتال ،ثمَّ نزل ، وذلك اليوم يوم الخميس،
وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.
وقال السيد ابن طاووس رحمه الله :
فقام الحسين ( عليه السلام ) خطيباً في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال :
إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ،وخسيس عيش. كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً حقاً ، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً.
فقام زهير بن القين فقال:
قد سمعنا ـ هداك الله يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ مقالتك ، ولوكانت الدنيا لنا باقية ، وكنا فيها مخلدين ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها.
قال : ووثب هلال بن نافع البجلي فقال :
والله ما كرهنا لقاء ربنا ، وإنا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك.
قال : وقام برير بن خضير فقال :
والله يا ابن رسول الله ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، فتُقطَّع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة.
قال :ثم إن الحسين ( عليه السلام ) قام وركب وسار ، وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء ، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم
وفي المناقب :فقال له زهير :
فسر بنا حتى ننزل بكربلاء،فإنها على شاطىء الفرات ، فنكون هنالك ، فإن قاتلونا قاتلناهم ، واستعنا الله عليهم ، قال :فدمعت عينا الحسين ( عليه السلام ) ثم قال :اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء ،
ونزل الحسين ( عليه السلام ) في موضعه ذلك ، ونزل الحر بن يزيد حذاءه في ألف فارس ، ودعا الحسين ( عليه السلام ) بدواة وبيضاء ، وكتب إلى أشراف الكوفة ممن كان يظنّ أنه على رأيه :
بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن عليإلى سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد ، وعبدالله بن وأل،وجماعة المؤمنين.
أمّا بعد ، فقد علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله)قد قال في حياته : من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحُرم الله ، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله،يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، ثمَّ لم يغيِّر بقول ولا فعل ، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله ، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتولّوا عن طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطَّلوا الحدود،واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرَّموا حلاله ، وإني أحقّ بهذا الأمرلقرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت علي َّرسلكم ببيعتكم ، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم ، ونفسي مع أنفسكم ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ، فلكم بي أسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم ، فلعمري ما هي منكم بنكر،لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي ، والمغرور من اغترَّ بكم ، فحظَّكم أخطأتم،ونصيبَكم ضيَّعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام.
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي ـ وساق الحديث كمامرَّ ـ
ثم قال : ولما بلغ الحسين ( عليه السلام ) قتل قيس استعبر باكياً ،
ثمَّ قال :اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلا كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرمن رحمتك ، إنك على كل شيء قدير.
قال :فوثب إلى الحسين ( عليه السلام ) رجل من شيعته ـ يقال له هلال بن نافع البجلي ـ
فقال : يا ابن رسول الله ، أنت تعلم أن جدَّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقدر أن يُشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبَّ ، وقد كان منهم منافقون يعدون بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرَّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وإن أباك علياً رحمة الله عليه قد كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجلُه ، فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته ، فلن يضرَّ إلاَّ نفسه ، والله مغن عنه ، فسر بنا راشداً معافىً ، مشرِّقاً إن شئت ، وإن شئت مغرِّباً ، فو الله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربِّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا،نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك.
ثم وثب إليه برير بن خضير الهمداني فقال :
والله يا بن رسول الله ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك،تُقطَّع فيه أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة بين أيدينا ، لا أفلح قومضيَّعوا ابن بنت نبيِّهم ، أفٍّ لهم غداً ماذا يلاقون ؟ ينادون بالويل والثبور في نار جهنم.
قال :فجمع الحسين ( عليه السلام ) ولده وإخوته وأهل بيته،ثمَّ نظر إليهم فبكى ساعة ،ثمَّ قال :
اللهم إنا عترة نبيك محمد ، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا ، وتعدَّت بنو أمية علينا ، اللهم فخذ لنا بحقنا،وانصرنا على القوم الظالمين.
قال : فرحل من موضعه حتى نزل في يوم الأربعاءأو يوم الخميس بكربلاء ، وذلك في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.
ثم أقبل على أصحابه فقال ( عليه السلام ) :
الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه مادرَّت معايشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون،
ثمَّ قال : أهذه كربلاء؟
فقالوا : نعم يا ابن رسول الله ،فقال :هذا موضع كرب وبلاء ، ههنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا.
قال :فنزل القوم وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين ( عليه السلام ) في ألف فارس ، ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكربلا.
وفي رواية أخرى :
قال الحسين ( عليه السلام ) :وما اسم هذا المكان ؟ قالواله : كربلاء ، قال :ذات كرب وبلاء ، ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه ، فوقف فسأل عنه ، فأخبر باسمه ، فقال : هاهنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم ، فسُئل عن ذلك
فقال :
ثقل لآل بيت محمد ، ينزلون ها هنا.
وقبض قبضة منها فشمَّها وقال :
هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنني أقتل فيها ، أخبرتني أم سلمة.

وفي رواية عن أبي مخنف في مقتله بإسناده عن الكلبي أنه قال :
وساروا جميعاً إلى أن أتوا إلى أرض كربلاء ، وذلك في يوم الأربعاء،فوقف فرس الحسين ( عليه السلام ) من تحته ، فنزل عنها وركب أخرى فلم ينبعث من تحته خطوة واحدة ، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة أفراس وهن على هذا الحال،فلما رأى الإمام ذلك الأمر الغريب قال ( عليه السلام ) :
ما يقال لهذه الأرض؟قالوا : أرض الغاضرية ،
قال :فهل لها اسم غير هذا؟ قالوا : تسمَّى نينوى ،
قال :هل لها اسم غير هذا؟ قالوا : تسمَّى بشاطىء الفرات ، قال :هل لها اسم غير هذا؟ قالوا : تسمَّى كربلاء.
فتنفّس الصعداء وقال :أرض كرب وبلاء ،ثم قال:قفوا ولا ترحلوا منها ، فهاهنا والله مناخ ركابنا ، وهاهنا والله سفك دمائنا،وهاهنا والله هتك حريمنا ، وهاهنا والله قتل رجالنا ، وهاهنا والله ذبح أطفالنا، وهاهنا والله تزال قبورنا ، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا خُلف لقوله.
ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول:
لم أنسَ إذْ وَقَفَ الجوادُ بكربلا**بابنِ البتولةِ والعدى حَفَّتْ بِهِ
يَا مُهْرُ لِمْ لا سِرْتَ عن وادي البلا**والكربِ خوفاً من بلاه وكربِهِ
أَوَهَلْ إليك اللهُ أَوْحَى أَنَّ في**واديه مَصْرَعَهُ ومصرعَ صَحْبِهِ
وعنندما نزل الإمام الحسين(عليه السلام)أرض كربلاء، ضَرَب فسطاطه، وراح يُعدُّ سلاحه، ويصلح سيفه، مُردّداً(عليه السلام) الأبيات الآتية:
يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِن خَليلِ ** كمْ لك بالإشرَاقِ والأصيلِ
مِن طَالبٍ وصَاحبٍ قَتيل** والدّهْر لا يقنعُ بالبَديلِ
وكُلّ حيٍّ سَالِكٌ سَبيلِ** مَا أقرَبَ الوَعْد مِن الرّحيل
وإنّما الأمرُ إلى الجَليلِ
فلمّا سمعت السيّدة زينب(عليها السلام) تلك الأبيات، قالت: «يا أخي! هذا كلام مَن أيقَن بالقَتل»!
فقال(عليه السلام): «نَعَمْ يا أُختَاه»،
فقالت: «وَاثكْلاه، يَنعي الحُسَين إليّ نَفسَه»
عظم الله اجورنا واجوركم
نسألكم الدعاء:حورية إنسية